فتح بيت المقدس:
عقب معركة أجنادين تمهَّد الطريق أمام المسلمين نحو القدس، وأسرعت خُطى التاريخ، واقترب اليوم الخالد، يوم الفتح الذي يُذَكِّر بفتح مكة، فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس، بل قل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ، تلك التي لازمتْها القداسة حتى في اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها، فهذا الخليل وابنه إسحاق، ويعقوب وبنوه، وهذا داود وابنه سليمان، وهذه مريم وابنها، وزكريا ويحيى، وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..
حرص عمرو بن العاص قبل أن يأتي بجنوده إلى القدس والرَّمْلة على أن يفتح ما حولهما من المدن، ليمنع عن الروم أي مدد، فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم، أو تتلطخ بقتال ينتهك حرمتها.
وبدا الروم لدى مقدم عمرو بجيشه محبوسين بين جدران المدينة التي صبغوها بمذهبهم في المسيح، وأرادوا أن يفرضوه على العرب والقبط في الشام ومصر وغيرهما..
ولم تكن بيت المقدس في ذلك الحين سوى مدينة رومانية في اسمها (إيلياء)، ورومانيةٍ في طراز أغلب مبانيها، يتجول في شوارعها جنود الإمبراطورية، وتتحرك في أنحائها وجوه من عناصر شتى، غير أن سمت أهلها من العرب لا تخطئه عين الناظرين.
كانت المدينة قد ضاقت بالاحتلال، وسمعت عن عدل الفاتحين الجدد الذين يقولون إنهم يهتدون بخُطى الأنبياء، ويضعون "إيلياء" موضع الإجلال والتقديس، ويشاركون أهل المدينة في عروبة أصولهم.
وبدأ عمرو فضرب الحصار حول المدينة أربعة أشهر، حتى ضاق صدر الروم من بأس المسلمين وصبرهم، بالرغم من الشتاء القارس والعوامل الجوية الصعبة، فانسحب أتباع قيصر والأرطبون من بيت المقدس، وودّعوها في حسرة قاتلة.
وطلب أهل المدينة الصلح، على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، فاستجاب لهم المسلمون، وأقبل عمر، في حادث من أكبر الأحداث في تاريخ المدينة المباركة، وتسلم المدينة من بِطْرِيكها صفرنيوس.