23-
صوم
المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان: ذهب
جمهور الفقهاء إلى أن من اشتبهت عليه الشهور لا يسقط عنه صوم رمضان، بل يجب لبقاء التكليف وتوجه
الخطاب.
فإذا
أخبره الثقات بدخول شهر الصوم عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم، وإن أخبروه
عن اجتهاد منهم، فلا يجب عليه العمل بذلك، بل يجتهد بنفسه في معرفة الشهر بما يغلب
على ظنه، ويصوم مع النية ولا يقلّد مجتهداً مثله.
فإن
صام المحبوس المشتبه عليه بغير تحرّ ولا اجتهاد ووافق الوقت لم يجزئه، وتلزمه إعادة
الصوم لتقصيره وتكره الاجتهاد الواجب باتفاق الفقهاء، وإن اجتهد وصام فلا يخلو
الأمر من خمسة أحوال:
-
الحال
الأولى: استمرار الإشكال وعدم انكشافه له، بحيث لا يعلم أن صومه صادف رمضان أو تقدم أو
تأخر، فهذا يجزئه صومه ولا إعادة عليه في قول
الحنفية والشافعية والحنابلة،
والمعتمد عند المالكية، لأنه بذل وسعه ولا يكلف بغير ذلك، كما لو صلى في يوم
الغيم بالاجتهاد.
وقال
بعض المالكية:
لا يجزيه الصوم، لاحتمال وقوعه قبل وقت رمضان.
-
الحال
الثانية: أن يوافق صوم المحبوس شهر رمضان فيجزيه ذلك عند
جمهور الفقهاء، قياساً على
من اجتهد في القبلة، ووافقها.
وقال
بعض المالكية:
لا يجزيه لقيامه على الشك، لكن المعتمد الأول.
-
الحال
الثالثة: إذا وافق صوم المحبوس ما بعد رمضان فيجزيه عند
جماهير الفقهاء، إلا بعض
المالكية كما تقدم آنفاً.
واختلف
القائلون بالإجزاء: هل يكون صومه أداء أو قضاء؟ وجهان، وقالوا: إن وافق بعض صومه
أياماً يحرم صومها كالعيدين والتشريق يقضيها.
-
الحال
الرابعة: وهي وجهان:
الوجه
الأول: إذا وافق صومه ما قبل رمضان وتبين له ذلك ولماّ يأت رمضان لزمه صومه إذا جاء
بلا خلاف، لتمكنه منه في وقته.
الوجه
الثاني: إذا وافق صومه ما قبل رمضان ولم يتبيّن له ذلك إلا بعد انقضائه ففي إجزائه
قولان:
القول
الأول: لا يجزيه عن رمضان بل يجب عليه قضاؤه، وهذا مذهب
المالكية والحنابلة،
والمعتمد عند الشافعية.
القول
الثاني: يجزئه عن رمضان، كما لو اشتبه على الحجاج يوم عرفة فوقفوا قبله،
وهو قول
بعض الشافعية. -
الحال
الخامسة: أن يوافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق
قبله لم يجزئه، ويراعى في ذلك أقوال الفقهاء المتقدمة.
والمحبوس
إذا صام تطوعاً أو نذراً فوافق رمضان لم يسقط عنه صومه في تلك السنة، لانعدام نية
صوم الفريضة،
وهو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية.
وقال
الحنفية: إن ذلك يجزيه ويسقط عنه الصوم في تلك السنة، لأن شهر رمضان ظرف لا يسع غير صوم
فريضة رمضان، فلا يزاحمها التطوع والنذر.
صَوْمُ
التَّطوُّعِ1- تعريف
صوم التطوع.2- فضل
صوم التطوع.3- أنواع
صوم التطوع:4- أحكام
النية في صوم التطوع:5-ما
يستحب صيامه من الأيام:6- حكم
الشروع في صوم التطوع.7- إفساد
صوم التطوع وما يترتب عليه.8- التطوع
بالصوم قبل قضاء رمضان.
1- التعريف: الصوم
لغة: مطلق الإمساك.
واصطلاحاً:
إمساك عن المفطرات حقيقة أو حكماً في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع
النية.
والتطوع
اصطلاحاً: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات.
وصوم
التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من الصوم.
2- فضل
صوم التطوع: ورد
في فضل صوم التطوع أحاديث كثيرة، منها: حديث سهل -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم
القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. فيقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد
غيرهم. فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد" متفق عليه.
ومنها
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله
تعالى وجهه عن النار سبعين خريفاً" رواه البخاري ومسلم.
3-
أنواع
صوم التطوع:
قسّم
الحنفية صوم التطوع إلى مسنون، ومندوب، ونفل.
فالمسنون:
عاشوراء مع تاسوعاء.
والمندوب:
صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم الإثنين والخميس، وصوم ست من شوال، وكل صوم ثبت
طلبه والوعد عليه: كصوم داود عليه الصلاة والسلام، ونحوه.
والنفل:
ما سوى ذلك مما لم تثبت كراهته.
وقسم
المالكية -أيضاً- صوم التطوع إلى ثلاثة أقسام: سنة، ومستحب،
ونافلة.
فالسنة:
صيام يوم عاشوراء.
والمستحب:
صيام الأشهر الحرم، وشعبان، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عرفة، وستة أيام من
شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم الإثنين والخميس.
والنافلة:
كل صوم لغير وقت ولا سبب، في غير الأيام التي يجب صومها أو
يمنع.
وعند
الشافعية والحنابلة:
صوم التطوع والصوم المسنون بمرتبة واحدة.
4- أحكام
النية في صوم التطوع:
أ-
وقت النية:
ذهب
جمهور الفقهاء -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا يشترط تبييت النية في صوم التطوع، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا:
لا، فقال: فإني إذاً صائم" رواه مسلم.
وذهب
المالكية إلى أنه يشترط في نية صوم التطوع التبييت كالفرض. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له" رواه أبو داود، فلا تكفي النية بعد
الفجر، لأن النية: القصد، وقصد الماضي محال عقلاً.
واختلف
جمهور الفقهاء في آخر وقت نية التطوع.
فذهب
الحنفية:
إلى أن آخر وقت نية صوم التطوع الضحوة الكبرى.
والمراد
بها: نصف النهار الشرعي.
والنهار
الشرعي: من استطارة الضوء في أفق المشرق إلى غروب الشمس، ونصوا على أنه لا بد من
وقوع النية قبل الضحوة الكبرى، فلا تجزئ النية عند الضحوة الكبرى اعتباراً لأكثر
اليوم.
وذهب
الشافعية:
إلى أن آخر وقت نية صوم التطوع قبل الزوال، واختص بما قبل الزوال لما روي أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة يوماً: "هل عندكم شيء؟ قالت: لا. قال: فإني إذاً
صائم" رواه مسلم. إذ الغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء اسم لما يؤكل بعده،
ولأنه مضبوط بَيِّن، ولإدراك معظم النهار به كما في ركعة
المسبوق.
وذهب
الحنابلة:
إلى امتداد وقت النية إلى ما بعد الزوال، قالوا: إنه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة،
ولم ينقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ما يخالفة صريحاً، ولأن النية وجدت في
جزء النهار، فأشبه وجودها قبل الزوال بلحظة.
ويشترط
لصحة نية النفل في النهار: ان لا يكون فعل ما يفطره قبل النية، فإن فعل فلا يجزئه
الصوم حينئذ.
ب-
تعيين النية:
اتفق
الفقهاء على أنه لا يشترط في نية صوم التطوع التعيين، فيصح صوم التطوع بمطلق
النية.
5- ما
يستحب صيامه من الأيام:
أ-
صوم يوم وإفطار يوم:
من
صيام التطوع صوم يوم وإفطار يوم، وهو أفضل صيام التطوع، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام
داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً" ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنها: "صم يوماً وأفطر يوماً،
فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام، فقال عبد الله بن عمرو إني أطيق أفضل
من ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك" رواه
البخاري.
ب-
صوم عاشوراء وتاسوعاء:
اتفق
الفقهاء على سنية صوم عاشوراء وتاسوعاء -وهما: اليوم العاشر، والتاسع من المحرم-
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي
قبله" رواه مسلم، ولحديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن
شاء فليفطر" رواه البخاري.
وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" رواه
مسلم.
وقد
كان صوم يوم عاشوراء فرضاً في الإسلام، ثم نسخت فرضيته بصوم رمضان، فخيرَّ النبي
صلى الله عليه وسلم المسلمين في صومه.
وصوم
يوم عاشوراء -كما سبق في الحديث الشريف- يكفر ذنوب سنة ماضية. والمراد بالذنوب:
الصغائر.
وصرح
الحنفية:
بكراهة صوم يوم عاشوراء منفرداً عن التاسع، أو عن الحادي
عشر.
وصرح
الحنابلة:
بأنه لا يكره إفراد عاشوراء بالصوم، وهذا ما يفهم من
مذهب
المالكية.
وذكر
العلماء في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً:
أحداهما:
أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر، وهو مروي عن ابن عباس رضي
الله عنهما فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا يوم عاشوراء،
وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" رواه
أحمد.
الثاني:
أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم، كما نهى أن يصوم يوم الجمعة
وحده.
الثالث:
الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع الغلط، فيكون التاسع في العدد هو
العاشر في نفس الأمر.
واستحب
الحنفية والشافعية صوم الحادي عشر، إن لم يصم التاسع.
ج-
صوم يوم عرفة:
اتفق
الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج -وهو: اليوم التاسع من ذي الحجة- وصومه يكفر
سنتين: سنة ماضية، وسنة مستقبلة، روى أبو قتادة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله،
والسنة التي بعده" رواه مسلم.
وهو
أفضل الأيام لحديث مسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من
يوم عرفة" رواه مسلم.
وذهب
جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى عدم استحبابه للحاج، ولو
كان قوياً، وصومه مكروه له
عند المالكية والحنابلة، وخلاف الأولى
عند
الشافعية، لما روت أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنهما "أنها أرسلت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بقدح لبن، وهو واقف على بعيرة بعرفة، فشرب"رواه البخاري وعن ابن
عمر رضي الله عنهما: "أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم
عثمان، فلم يصمه أحد منهم" رواه الترمذي، لأنه يضعفه عن الوقوف والدعاء، فكان تركه
أفضل، وقيل لأنهم أضياف الله وزواره.
وقال
الشافعية:
ويسنّ فطره للمسافر والمريض مطلقاً، وقالوا : يسن صومه لحاج لم يصل عرفة إلا ليلاً،
لفقد العلة.
وذهب
الحنفية إلى استحبابه للحاج -أيضاً- إذا لم يضعفه عن الوقوف بعرفات ولا يخل بالدعوات، فأن
أضعفه كره له الصوم.
د-
صوم الثمانية من ذي الحجة:
اتفق
الفقهاء على استحباب صوم الأيام الثمانية التيمن أول ذي الحجة قبل يوم عرفة، لحديث ابن
عباس: رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله
من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء"
رواه البخاري.
قال
الحنابلة:
وآكده: الثامن، وهو يوم التروية.
وصرح
المالكية:
بأن صوم يوم التروية يكفر سنة ماضية.
وصرح
المالكية، والشافعية:
بأنه يسن صوم هذه الأيام للحاج أيضاً. واستثنى المالكية من ذلك صيام يوم التروية
للحاج.
هـ-
صوم ستة أيام من شوال:
ذهب
جمهور الفقهاء -المالكية، والشافعية، والحنابلة ومتأخرو الحنفية- إلى أنه يسن صوم ستة أيام من شوال بعد صوم رمضان، لما روى أبو أيوب -رضي الله تعالى
عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال،
كان كصيام الدهر" رواه مسلم، وعن ثوبان -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام
السنة" رواه الدارقطني، يعني: أن الحسنة بعشرة أمثالها: الشهر بعشرة أشهر، والأيام
الستة بستين يوماً، فذلك سنة كاملة.
وصرح
الشافعية والحنابلة:
بأن صوم ستة أيام من شوال -بعد رمضان- يعدل صيام سنة فرضاً، وإلا فلا يختص ذلك
برمضان وستة من شوال، لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
قال
الحنفية ومحل الكراهة أن يصوم يوم الفطر، ويصوم بعده خمسة أيام، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم
صام بعده ستة أيام فليس بمكروه، بل هو مستحب وسنة.
وقاله
المالكية:
يكره
المالكية صومها لمقتدى به، ولمن خيف عليه اعتقاد وجوبها، إن صامها
متصلة برمضان متتابعة وأظهرها، أو كان يعتقد سنية اتصالها، فإن انتفت هذه القيود
استحب صيامها.
وصرح
الشافعية، والحنابلة:
بأنه لا تحصل الفضيلة بصيام الستة في غير شوال، وتفوت بفواته، لظاهر
الأخبار.
ومذهب
الشافعية:
استحباب صومها لكل أحد، سواء أصام رمضان أم لا، كمن أفطر لمرض أو كُفْر أو غير
ذلك.
وعند
الحنابلة:
لا يستحب صيامها إلا لمن صام رمضان.
وذهب
الشافعية وبعض الحنابلة إلى أفضلية تتابعها عقب العيد مبادرة إلى العبادة، ولما في التأخير من
الآفات.
ذهب
الحنابلة إلى عدم التفريق بين التتابع والتفريق في الأفضلية.
وذهب
الحنفية:
إلى استحباب الستة متفرقة: كل أسبوع يومان.
وذهب
المالكية إلى كراهة صومها متصلة برمضان متتابعة، ونصوا على حصول الفضيلة ولو صامها في غير
شوال، بل استحبوا صيامها في عشر ذي الحجة، ذلك أن محل تعيينها في الحديث في شوال
على التخفيف في حق المكلف، لاعتياده الصيام، لا لتخصيص حكمها
بذلك.
وإنما
قال الشارع: (من شوال) للتخفيف باعتبار الصوم، لا تخصيص حكمها بذلك الوقت، فلا جرم
إن فعلها في عشر ذي الحجة مع ما روي في فضل الصيام فيه أحسن، لحصول المقصود مع
حيازة فضل الأيام المذكورة. بل فعلها في ذي القعدة حسن أيضاً: والحاصل: أن كل ما
بعد زمنه كثر ثوابه لشدة المشقة.
و-
صوم ثلاثة أيام من كل شهر: اتفق
الفقهاء على أنه يسن صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
وذهب
الجمهور منهم -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى استحباب كونها الأيام البيض -وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر
عربي- سميت بذلك لتكامل ضوء الهلال وشدة البياض فيها، لما روى أبو ذر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم
ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" رواه الترمذي.
وذهب
الشافعية إلى أن والأحوط صوم الثاني عشر معها -أيضاً-، للخروج من خلاف من قال: إنه أول
الثلاثة، ويستثنى ثالث عشر ذي الحجة فلا يجوز صومه لكونه من أيام التشريق. فيبدل
بالسادس عشر منه.
وذهب
المالكية إلى كراهة صوم الأيام البيض، فراراً من التحديد، ومخافة اعتقاد وجوبها. ومحل
الكراهة: إذا قصد صومها بعينها، واعتقد أن الثواب لا يحصل إلا بصومها خاصة. وأما
إذا قصد صيامها من حيث إنها ثلاثة أيام من الشهر فلا كراهة.
وصوم
ثلاثة أيام من كل شهر كصوم الدهر، بمعنى: أنه يحصل بصيامها أجر صيام الدهر بتضعيف
الأجر: الحسنة بعشرة أمثالها. لحديث قتادة بن ملحان رضي الله عنه: "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. قال:
قال: وهن كهيئة الدهر" رواه أبو داود، أي كصيام الدهر.
ز-
صوم الإثنين والخميس من كل أسبوع:
اتفق
الفقهاء على استحباب صوم يوم الإثنين والخميس من كل أسبوع.
لما
روى أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم
الإثنين والخميس. فسئل عن ذلك؟ فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين والخميس"
رواه أبو داود، وفي رواية النسائي "وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، ولما ورد من حديث
أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين
فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل علي" رواه مسلم.
ح-
صوم الأشهر الحرم:
ذهب
جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- إلى استحباب صوم الأشهر الحرم.
وصرح
المالكية والشافعية بأن أفضل الأشهر الحرم: المحرم، ثم رجب، ثم باقيها: ذو القعدة وذو الحجة. والأصل في
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان
صيام شهر الله المحرم" رواه مسلم.
وذهب
الحنفية:
إلى أنه من المستحب أن يصوم الخميس والجمعة والسبت من كل شهر من الأشهر
الحرم.
وذهب
الحنابلة إلى أنه يسن صوم شهر المحرم فقط من الأشهر الحرم.
وذكر
بعضهم استحباب صوم الأشهر الحرم، لكن الأكثر لم يذكروا استحبابهن بل نصوا على كراهة
إفراد رجب بالصوم، لما روى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن صيام رجب" رواه ابن ماجه. ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه.
وتزول الكراهة بفطره فيه ولو يوماً، أو بصومه شهراً آخر من السنة وإن لم يل
رجباً.
ط-
صوم شهر شعبان:
ذهب
جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- إلى استحباب صوم شهر شعبان، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "ما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً منه في شعبان" رواه البخاري. وعنها قالت: "كان
أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، بل كان يصله برمضان"
رواه النسائي.
وعن
عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام
شهر قط إلا رمضان" متفق عليه. قال العلماء: وإنما لم يستكمل ذلك لئلا يظن
وجوبه.
وذهب
الحنابلة إلى عدم استحباب صوم شعبان، وذلك في قول الأكثر.
ي-
صوم يوم الجمعة:
ذهب
الحنفية إلى أنه لا بأس عند الحنفية بصوم يوم الجمعة بانفراده.
_وذهب
المالكية: إلى ندبه، لما روى عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يصومه ولا
يفطر.
وقال
بعض الحنفية:
جاء حديث في كراهته إلا أن يصوم قبله وبعده، فكان الاحتياط أن يضم إليه يوماً آخر،
وثبت بالسنة طلبه والنهي عنه، والآخر منهما النهي، لأن فيه وظائف، فلعله إذا صام
ضعف عن فعلها.
ومحل
النهي عند المالكية هو مخافة فرضيته، وقد انتفت هذه العلة بوفاة النبي صلى الله
عليه وسلم.
وذهب
الشافعية والحنابلة إلى كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم، لحديث: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم
قبله أو بعده" رواه البخاري ومسلم، وليتقوى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه، أو
لئلا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت، ولئلا يعتقد وجوبه، ولأنه يوم عيد وطعام
.
6- حكم
الشروع في صوم التطوع:
ذهب
الحنفية والمالكية إلى لزوم صوم التطوع بالشروع فيه، وأنه يجب على الصائم المتطوع إتمامه إذا بدأ فيه،
لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً
فليُصَلِّ، وإن كان مفطراً فليطعم" رواه مسلم قوله: فليُصَلِّ: أي فلْيَدْعُ. ثبت
هذا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو كان الفطر جائزاً لكان الأفضل الفطر، لإجابة
الدعوة التي هي السنة.
وذهب
الشافعية والحنابلة إلى عدم لزوم صوم التطوع بالشروع فيه، ولا يجب على الصائم تطوعاً إتمامه إذا بدأ
فيه، وله قطعه في أي وقت شاء، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "قلت: يا
رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال: "أرنيه، فلقد أصبحت صائماً" فأكل رواه مسلم. وزاد
النسائي "إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن
شاء حبسها". ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمين نفسه، إن شاء
صام، وإن شاء أفطر" رواه الترمذي.
7- إفساد
صوم التطوع وما يترتب عليه:
ذهب
الحنفية والمالكية إلى حرمة إفساد صوم التطوع لغير
عذر.
وذهب
الشافعية والحنابلة إلى كراهة قطعه بلا عذر، واستحباب إتمامه لظاهر قوله تعالى: {
وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وللخروج من خلاف من أوجب
إتمامه.
ومن
الأعذار التي ذكرها الحنفية والمالكية لجواز الفطر: الحلف على الصائم بطلاق امرأته إن لم يفطر، فحينئذ يجوز له الفطر، بل
نص الحنفية على ندب الفطر دفعاً لتأذي أخيه المسلم، لكن الحنفية قيدوا جواز الفطر
إلى ما قبل نصف النهار أما بعده فلا يجوز.
وكذلك
من الأعذار عند الحنفية: الضيافة للضيف والمضيف إن كان صاحبها ممن لا يرضى
بمجرد الحضور، وكان الصائم يتأذى بترك الإفطار، شريطة أن يثق بنفسه
بالقضاء.
وقيد
المالكية جواز الفطر بالحلف بالطلاق بتعلق قلب الحالف بمن حلف بطلاقها، بحيث يخشى أن لا
يتركها إن حنث، فحينئذ يجوز للمحلوف عليه الفطر، ولا قضاء عليه
أيضاً.
ومن
الأعذار -أيضاً-: أمر أحد أبويه له بالفطر.
وقيد
الحنفية جواز الإفطار بما إذا كان أمر الوالدين إلى العصر لا بعده، ووجهه أن قرب وقت
الإفطار يرفع ضرر الانتظار.
وألحق
المالكية بالأبوين: الشيخ في السفر، الذي أخذ على نفسه العهد أن لا يخالفه، ومثله عندهم: شيخ
العلم الشرعي.
وذهب
الشافعية إلى استحباب قطع صوم التطوع إن كان هنا كعذر، كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه
امتناع مضيفة منه، أو عكسه. أما إذا لم يعز على أحدهما امتناع الآخر عن ذلك فالأفضل
عدم خروجه منه.
واختلف
الفقهاء في حكم قضاء صوم التطوع عند إفساده.
فذهب
الحنفية والمالكية إلى وجوب قضاء صوم التطوع عند إفساده. لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنها
قالت: "كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة -وكانت ابنة أبيها- فقالت: يا رسول الله إنا
كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فقال: اقضيا يوماً آخر مكانه"
رواه الترمذي.
ولأن
ما أتى به قربة، فيجب صيانته وحفظه عن البطلان، وقضاؤه عند الإفساد لقوله تعالى:
{
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولا يمكن ذلك إلا بإتيان
الباقي، فيجب إتمامه، وقضاؤه عند الإفساد ضرورة، فصار كالحج والعمرة
التطوّعين.
ومذهب
الحنفية:
وجوب القضاء عند الإفساد مطلقاً، أي: سواء أفسد عن قصد -وهذا لا خلاف فيه- أو غير
قصد، بأن عرض الحيض للصائمة المتطوعة، واستثنوا من ذلك: صوم العيدين وأيام التشريق،
فلا تلزم بالشروع، لا أداءً ولا قضاءً، إذا أفسد، لإرتكابه النهي بصيامها، فلا تجب
صيانته، بل يجب إبطاله، ووجوب القضاء ينبني على وجوب الصيانة، فلم يجب قضاء، كما لم
يجب أداء.
وخصّ
المالكية وجوب القضاء بالفطر العمد الحرام، وذلك كمن شرع في صوم التطوع، ثم أفطر من غير
ضرورة ولا عذر، احترز بالعمد من النسيان والإكراه، وبالحرام : عمن أفطر لشدة الجوع
والعطش والحر الذي يخاف من تجدد مرض أو زيادته، وكذلك عمن أفطر لأمر والديه وشيخه،
وعدّواً السفر الذي يطرأ عليه من الفطر العمد.
وذهب
الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب القضاء على من أفسد صوم التطوع، لأن القضاء يتبع المقضى عنه، فإذا
لم يكن واجباً، لم يكن القضاء واجباً، لكن يندب له القضاء، سواء أفسد صوم التطوع
بعذر أم بغير عذر، خروجاً من خلاف من أوجب قضاءه.
ونصّ
الشافعية والحنابلة على أنه إذا أفطر الصائم تطوعاً لم يثب على ما مضى، إن خرج منه بغير عذر، ويثاب
عليه إن خرج بعذر.
- الإذن
في صوم التطوع:
اتفق
الفقهاء على أنه ليس للمرأة أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تصم المرأة وبعلها شاهد، إلا بإذنه" رواه مسلم، ولأن حق الزوج فرض، فلا يجوز
تركه لنفل.
ولو
صامت المرأة بغير إذن زوجها صح مع الحرمة
عند جمهور الفقهاء، والكراهة
التحريمية
عند الحنفية.
وخصَّ
الشافعية الحرمة
بما يتكرر صومه، أما ما لا يتكرر صومه كعرفة وعاشوراء وستة من شوال فلها صومها بغير
إذنه، إلا إن منعها.
ولا
تحتاج المرأة إلى إذن الزوج إذا كان غائباً، لمفهوم الحديث ولزوال معنى
النهي.
قال
الشافعية:
وعلمها برضاه كإذنه. ومثل الغائب
عند الحنفية: المريض، والصائم والمحرم بحج
أو عمرة.
قال
الحنفية:
وإذا كان الزوج مريضاً أو صائماً أو محرماً لم يكن له منع الزوجة من ذلك، ولها أن
تصوم وإن نهاها.
وصرح
الحنفية والمالكية بأنه لا يصوم الأجير تطوعاً إلا بإذن المستأجر، إن كان صومه يضرّ به في الخدمة، وإن
كان لا يضره فله أن يصوم بغير إذنه.
وإذا
صامت الزوجة تطوعاً بغير إذن زوجها فله أن يفطّرها.
وخص
المالكية جواز تفطيرها بالجماع فقط، أما بالأكل والشرب فليس له ذلك، لأن احتياجه إليها
الموجب لتفطيرها إنما هو من جهة الوطء.
8-
التطوع
بالصوم قبل قضاء رمضان: اختلف
الفقهاء في حكم التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان.
فذهب
الحنفية إلى جواز التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان من غير كراهة، لكون القضاء لا يجب على
الفور، ولو كان الوجوب على الفور لكره، لأنه يكون تأخيراً للواجب عن وقته
الضيق.
وذهب
المالكية والشافعية إلى الجواز مع الكراهة، لما يلزم من تأخير الواجب، ويكره التطوع بالصوم لمن عليه
صوم واجب، كالمنذور والقضاء والكفارة. سواء كان صوم التطوع الذي قدمه على الصوم
الواجب غير مؤكد، أو كان مؤكداً، كعاشوراء وتاسع ذي الحجة على
الراجح.
وذهب
الحنابلة إلى حرمة التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان، وعدم صحة التطوع حينئذ ولو اتسع الوقت
للقضاء، ولا بد من أن يبدأ بالفرض حتى يقضيه، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض
أيضاً، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه" رواه أحمد،
وقياساً على الحج. في عدم جواز أن يحج عن غيره أو تطوعاً قبل حج
الفريضة.
الاعتكاف1- تعريف
الاعتكاف.2- مشروعية
الاعتكاف.3- وقت
الاعتكاف.4- مكان
الاعتكاف.5- حكم
الاعتكاف.6- ما
يوجبه النذر على المعتكف.7- شروط
الاعتكاف:8- ما
يلزم المعتكف وما يجوز له.9- آداب
الاعتكاف.10- مكروهات
الاعتكاف.11- مبطلات
الاعتكاف.12- حكم
الاعتكاف إذا فسد.
المبحث
الأول - تعريف الاعتكاف ومشروعيته ومكانه وزمانه:
1- تعريفه:
الاعتكاف
لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيراً كان أو شراً.
ومنه
قوله تعالى: {
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] وقوله:
{
مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:
52] وقوله سبحانه: {
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وشرعاً
له تعاريف متقاربة في المذاهب.
قال
الحنفية: هو اللبث في المسجد الذي تقام فيه الجماعة، مع الصوم، ونية
الاعتكاف.
وقال
المالكية: هو لزوم مسلم مميز مسجداً مباحاً لكل الناس، بصوم، كافَّاً عن الجماع
ومقدماته، يوماً وليلة فأكثر، للعبادة، بنية.
وقال
الشافعية: هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية.
وقال
الحنابلة: هو لزوم المسجد لطاعة الله، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل ولو مميزاً
طاهر مما يوجب غسلاً، وأقله ساعة.
2- وأدلة
مشروعيته: الكتاب
والسنة والإجماع، فالكتاب: لقوله تعالى:
{
وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فالإضافة في الآية
إلى المساجد المختصة بالقربات، وترك الوطء المباح لأجله، دليل على أنه
قربة.
والسنة:
لما روى ابن عمر وأنس وعائشة أن "النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر
الأواخر من رمضان، منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى" متفق
عليه.
وأجمع
العلماء على مشروعيته.
3- وقت
الاعتكاف:
أنه
مستحب كل وقت في رمضان وغيره.
ذهب
الحنفية إلى أنَّ أقلَّ اعتكاف والنفل: مدة يسيرة غير محدودة، وإنما بمجرد المكث مع النية،
ولو نواه ماشياً على المفتى به، لأنه متبرع، وليس الصوم في النفل من شرطه، ويعد كل
جزء من اللبث عبادة مع النية بلا انضمام إلى آخر. ولا يلزم قضاء نفل شرع فيه، لأنه
لا يشترط له الصوم.
وذهب
المالكية إلى أن أقلَّ الاعتكاف يوم وليلة، والاختيار: ألا ينقص من عشرة أيام، بمطلق صوم من
رمضان أو غيره، فلا يصح من مفطر، ولو لعذر، فمن لا يستطيع الصوم لا يصح
اعتكافه.
وذهب
الشافعية في الأصح عندهم: إلى أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفاً أي إقامة، بحيث
يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون، بل
يكفي التردد فيه.
وذهب
الحنابلة إلى أنَّ أقله: ساعة أي ما يسمى به معتكفاً لابثاً، ولو لحظة. فالجمهور على
الاكتفاء بمدة يسيرة، والمالكية يشترطون لأقله يوماً وليلة.
4- محل
الاعتكاف: عند
الحنفية للرجل أو المميز في مسجد الجماعة: وهو ماله إمام ومؤذن، سواء أديت فيه
الصلوات الخمس أو لا، وأما الجامع فيصح فيه مطلقاً اتفاقاً. بدليل قول ابن مسعود:
"لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة"، وللمرأة في مسجد بيتها: وهو المعد لصلاتها، الذي
يندب لها ولكل أحد اتخاذه.
وذهب
الحنابلة: إلى أنه لا يجوز الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاة جماعة إلا في مسجد تقام فيه الجماعة،
فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، لقوله تعالى:
{
وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فلو صح في غيرها لم
تختص بتحريم المباشرة، إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقاً.
ويصح
الاعتكاف في كل مسجد في الحالات التالية :
1- إن
كان الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة كليلة، أو بعض يوم، لعدم المانع، وإن كانت الجماعة
تقام في مسجد في بعض الزمان، جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون
غيره.
2- إن
كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور والمرأة والصبي ومن هو في قرية
لا يصلي فيها سواه، فله أن يعتكف في كل مسجد، لأن الجماعة غير واجبة عليه. ولا يصح
للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها، لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكماً، ولو جاز لفعلته
أمهات المؤمنين، ولو مرة، تبييناً للجواز.
وإذا
اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء، لأن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن، فضربن في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال،
وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم.
ولا
يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي
عليه وقت صلاة، حتى لا يترك الجماعة.
ويلاحظ
أن سطح المسجد ورحبته المحوطة به وعليها باب، ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها
فيه من المسجد، بدليل منع الجنب من الدخول فيما ذكر.
وكذا
كل ما زيد في المسجد حتى في الثواب يعد من المسجد، ولو المسجد الحرام ومسجد
المدينة.
ولو
اعتكف من لا تلزمه الجمعة كالمسافر والمرأة في مسجد لا تصلى فيه الجمعة، بطل
اعتكافه بخروجه إليها إن لم يشترط الخروج إليها، لأنه خروج لازم لابد له
منه.
والأفضل
الاعتكاف في المسجد الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها،
فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه.
ومن
نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فله فعل المنذور من اعتكاف أو
صلاة في غيره، لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعاً، فلم يتعين بالنذر، ولو تعين
لاحتاج إلى شد رحل.
وإن
نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى
الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لم يجزئه في غيرها، لفضل العبادة فيها على غيرها،
فتتعين بالتعيين. وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة، لحديث أبي هريرة:
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي
هذا".
وأفضلها
المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى، فإن عين
الأفضل منها وهو المسجد الحرام في نذره، لم يجزئه الاعتكاف ولا الصلاة فيما دونه،
لعدم مساواته له.
وذهب
المالكية:
إلى أن مكان الاعتكاف هو المساجد كلها، ولا يصح في مسجد البيوت المحجورة، ومن نوى
الاعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى
الجمعة، بطل اعتكافه. ويلزم الوفاء بالنذر في المكان الذي عينه الناذر، فإذا عين
مسجد مكة أو المدينة في نذر الصلاة أو الاعتكاف، وجب عليه الوفاء فيهما. والمدينة
عند المالكية أفضل من مكة، ومسجدها أفضل من المسجد الحرام، ويليهما المسجد
الأقصى.
وذهب
الشافعية: إلى أنَّه إنما يصح الاعتكاف في المسجد، سواء في سطحه أو غيره التابع له، والجامع
أولى بالاعتكاف فيه من غيره، للخروج من خلاف من أوجبه، ولكثرة الجماعة فيه،
وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها
يوم الجمعة، وكان ممن تلزمه الجمعة، ولم يشترط الخروج لها.
ولا
يصح اعتكاف امرأة في مسجد بيتها: وهو المعتزل المهيأ للصلاة، لأنه ليس
بمسجد.
وإن
نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه، جاز أن يعتكف في غيره، لأنه لا
مزية لبعضها على بعض، فلم يتعين.
وإن
نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى) تعين،
ولزمه أن يعتكف فيه، لما روى عمر رضي الله عنه، قال: "قلت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
أوف بنذرك" متفق عليه ويقوم المسجد الحرام مقامهما لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك
به، ولا عكس، فلا يقومان مقام المسجد الحرام، لأنهما دونه في الفضل، ويقوم مسجد
المدينة مقام الأقصى، لأنه أفضل منه، ولا عكس، لأنه دونه في
الفضل.
والخلاصة:
أن المالكية والشافعية يجيزون الاعتكاف في أي مسجد، والحنفية والحنابلة يشترطون
كونه في المسجد الجامع، ولا يجوز عند الجمهور الاعتكاف في مسجد البيوت، ويجوز ذلك
للمرأة عند الحنفية.
المبحث
الثاني- حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف:
وفيه
مطلبان:
5- المطلب
الأول- حكم الاعتكاف: الاعتكاف
غير المنذور مستحب باتفاق العلماء، ولكن يحسن بيان الآراء المذهبية لتحديد رتبة
السنة على وجه الدقة.
ذهب
الحنفية:
إلى أن الاعتكاف ثلاثة أنواع: واجب، وسنة مؤكدة، ومستحب.
أما
الواجب: فهو المنذور، كقوله: "لله علي أن أعتكف يوماً" أو أكثر
مثلاً.
وأما
السنة المؤكدة على سبيل الكفاية: فهي اعتكاف العشر الأخير من رمضان، لاعتكافه صلى
الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه
بعده.
وأما
المستحب: فهو في أي وقت سوى العشر الأخير، ولم يكن منذوراً، كأن ينوي الاعتكاف عند
دخول المسجد، وأقله: مدة يسيرة، ولو كانت مشياً.
والصوم
شرط لصحة الاعتكاف المنذور فقط وغير شرط في التطوع، وأقله يوم، فلو نذر اعتكاف ليلة
لم يصح، وإن نوى معها اليوم لعدم محليتها للصوم، أما لو نوى بها اليوم
صح.
ولو
نذر الاعتكاف ليلاً ونهاراً، يصح، وإن لم يكن الليل محلاً للصوم، لأنه يدخل الليل
تبعاً.
وذهب
المالكية:
إلى أن الاعتكاف قربة ونافلة من نوافل الخير ومندوب إليه بالشرع أو مرغب فيه شرعاً
للرجال والنساء، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويجب
بالنذر.
وذهب
الشافعية والحنابلة: إلى أنَّ الاعتكاف سنة أو مستحب كل وقت، إلا أن يكون نذراً، فيلزم الوفاء به، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم فعله ودوام عليه، تقرباً إلى الله تعالى، واعتكف أزواجه
بعده معه. فإن نذره وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع وغيره، لحديث: "من
نذر أن يطيع الله فليطعه". رواه البخاري.
6- المطلب
الثاني- ما يوجبه النذر على المعتكف:
إذا
نذر المسلم نذر يوم أو أيام، فهل يدخل معه الليل، وهل يجب التتابع بين الأيام أم
لا، ومتى يدخل المعتكف هل قبل الغروب أم قبل طلوع الفجر ؟.
ذهب
الجمهور:
إلى أن دخول الليل مع اليوم، ويجب التتابع بين الأيام المنذورة كأسبوع أو شهر،
ويدخل المعتكف قبل غروب شمس ذلك اليوم، ويخرج بعد الغروب من آخر
يوم.
وذهب
الشافعية إلى عدم دخول الليلة مع اليوم إلا في العشر الأخير من رمضان، ولا يلزمه التتابع فيه
إلا بشرط، ويدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب
الشمس.
وذهب
الحنفية:
إلى أن من أوجب على نفسه اعتكاف يومين فأكثر، لزمه اعتكافها بلياليها، لأن الليالي
تدخل تبعاً لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يدخل فيها لياليها، ويلزمه تتابعها وإن لم
يشترط التتابع، لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، بخلاف الصوم فإن مبناه على التفرق،
لأن الليالي غير قابلة للصوم، فيجب على التفرق، أما الاعتكاف فالأوقات كلها قابلة
له.
وتدخل
الليلة الأولى، ويدخل المسجد قبل الغروب من أول ليلة، ويخرج منه بعد الغروب من آخر
أيامه.
ومن
نذر اعتكاف الليالي لزمته الأيام، وتلزمه الليالي بنذر اعتكاف أيام متتابعة، ويلاحظ
أن الليالي تابعة للأيام إلا ليلة عرفة وليالي النحر فتبع للنُهُر
(1) الماضية رفقاً بالناس.
____________________
(1) جمع
نهار.
وعبارة
المالكية: إلى أنَّه يلزم المعتكف يوم بليلته المنذورة، وإن نذر ليلة فقط، فمن نذر
ليلة الخميس، لزمه ليلته وصبيحتها، ولا يتحقق الصوم الذي هو من شروط الاعتكاف إلا
باليوم، لا إن نذر بعض يوم فلا يلزمه شيء.
ولزم
تتابع الاعتكاف في نذر مطلق، أي لم يقيد بتتابع ولا عدمه، وأما الاعتكاف غير
المنذور، فيلزم ما نواه قل أو كثر بدخوله معتكفه.
ولزم
دخول المعتكف قبل الغروب أو معه، ليتحقق له كمال الليلة. ولزم خروجه من معتكفه بعد
الغروب ليتحقق له كمال النهار.
وذهب
الحنابلة:
إلى أن من نذر اعتكاف شهر، لزمه التتابع، ودخلت فيه الليالي، ودخل معتكفه قبل غروب
شمس ليلته الأولى، ولا يخرج إلا بعد غروب شمس آخر أيامه.
وإن
نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه، ولم تدخل ليلته، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع
الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس، لأن الليلة ليست من اليوم، وهي من الشهر، وإطلاق
اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه، كما لو قال متتابعاً، وكذا إطلاق الشهر يقتضي
التتابع، كما لو حلف: "لا يكلم زيداً شهراً" وكمدة الإيلاء والعنة والعدة، بخلاف
الصيام. فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك، وإن كان الشهر ناقصاً، وإن اعتكف
ثلاثين يوماً من شهرين جاز، وتدخل فيه الليالي، لأن الشهر عبارة عنهما، ولا يجزئه
أقل من ذلك.
وذهب
الشافعية: إلى أنه إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة، بلا خلاف، فالليلة ليست من اليوم،
بل يلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس، لأن حقيقة
اليوم: ما بين الفجر وغروب الشمس.
وإن
نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه اعتكافه ليلاً ونهاراً أي دخلت لياليه، سواء أكان الشهر
تاماً أم ناقصاً، لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين أي جميع الشهر، تم أو نقص إلا
أن يستثنيها لفظاً. وإن نذر اعتكاف نهار الشهر، لزمه النهار دون الليل، لأنه خص
النهار، فلا يلزمه الليل. وهذا موافق للحنابلة.
والراجح
عند الأكثرين من الشافعية أنه إن نوى التتابع أو صرح به، لزمته الليلة، وإلا
فلا.
والصحيح
أنه لا يجب التتابع بلا شرط، وأنه لو نذر يوماً لم يجز تفريق ساعاته، وأنه لو عين
مدة كأسبوع وتعرض للتابع فيها لفظاً وفاتته، لزمه التتابع في القضاء، وإن لم يتعرض
للتتابع لم يلزمه في القضاء جزماً، لأن التتابع فيه لم يقع مقصوداً، بل لضرورة تعين
الوقت، فأشبه التتابع في شهر رمضان.
7- المبحث
الثالث- شروط الاعتكاف:
يشترط
لصحة الاعتكاف ما يلي:
1- الإسلام:
فلا يصح الاعتكاف من الكافر، لأنه من فروع الإيمان.
2- العقل
أو التمييز: فلا يصح من مجنون ونحوه، ولا من صبي غير مميز، لأنه ليس من أهل
العبادات، فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر، ويصح اعتكاف الصبي
المميز.
3- كونه
في المسجد: فلا يصح في البيوت، كما بينا، إلا أن الحنفية أجازوا للمرأة الاعتكاف في
مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة فيه.
4- النية
اتفاقاً: فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية
كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين
النية للفرض، لتميزه عن التطوع.
5- الصوم:
شرط مطلقاً عند المالكية، وشرط عند الحنفية في الاعتكاف المنذور فقط دون غيره من
التطوع، وليس بشرط عند الشافعية والحنابلة فيصح بلا صوم، إلا أن ينذره مع الاعتكاف،
ويصح عند الجمهور غير المالكية اعتكاف الليل وحده إذا لم يكن
منذوراً.
6- الطهارة
من الجنابة والحيض والنفاس: شرط عند الجمهور، إلا أن الخلو من الجنابة شرط عند
المالكية لحل المكث في المسجد، لا لصحة الاعتكاف، فإذا احتلم المعتكف وجب عليه
الغسل إما في المسجد إن وجد في ماء، أو خارج المسجد.
وكذلك
قال الحنفية: الخلو من الجنابة شرط لحل الاعتكاف، لا لصحته، فلو اعتكف الجنب، صح
اعتكافه مع الحرمة. وأما الخلو عن الحيض والنفاس فهو شرط لصحة الاعتكاف الواجب وهو
المنذور، لأن الصوم شرط لصحته، ولا يصح الصوم من الحائ