آخر أيام صلاح الدين في القدس:
وجْهُ صلاح الدين تعرفه القدس جيدًا مجاهدًا رحيمًا، وتملأ البسمة فمها حينما تذكره كواحد من أعظم أبطالها، ووجه القدس يعرفه صلاح الدين جيدًا، ويملأ الحزن قلبه من قسوة الناس مع هذه المدينة المباركة، الجالسة فوق رُبا عالية، تنظر إلى الناس في كبرياء وجلال جيلاً وراء جيل.
وقد عاد صلاح الدين إلى القدس بعد صلح الرملة الذي عقده مع ريتشارد قلب الأسد في شعبان من سنة خمسمائة وثمان وثمانين، وأخذ يرتب أمور المدينة المقدسة، وينظم شؤونها الإدارية، ووسع في أوقاف المدارس والصوفية.
ثم اشتاق قلبه إلى الحج، وطار به الشوق إلى سماء مكة والمدينة وأرضهما، فعزم على الحج، لكن أصحاب الرأي من المسلمين، رأوا أن يؤجل السلطان حَجَّه إلى عام آخر، خوفًا على البلاد من الصليبيين، فاستجاب صلاح الدين للنصح، ومكث في بيت المقدس بقية شعبان وجميعَ شهر رمضان قضاه في صيام وصلاة وقرآن في رحاب المسجد الأقصى وعند الصخرة، وكان يُكْرِم ملوك الفرنجة إذا وفدوا عليه، تأليفًا لقلوبهم، ومنعًا لشرورهم عن المسلمين.
وفي الخامس من شوال ركب السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وعساكرُه الخيول ونيتُه دمشق، بعد أن عين عز الدين جوردبك نائبًا له على القدس، وبهاءَ الدين بن يوسف بن رافعٍ الشافعيَّ قاضيًا عليها، وراحت الخيل تخرج من القدس متثاقلة، فهي الخطا الأخيرة هنا لصلاح الدين فوق هذا التراب الغالي؛ إذ توفي ـ رحمه الله ـ في دمشق أواخر شهر صفر من العام التالي، وترك القدس وغيرها أمانة في أعناق خلفائه من بني أيوب